يموت الآلاف من الفقراء في مختلف المناطق اليمنية ليس فقط من صواريخ وقذائف الحرب، بل لعدم حصولهم على ثمن الدواء في بعض الأحيان، وبسبب غلاء سعره في أحيانٍ كثيرة، أو لعدم تواجده كما هو حال بعض الأدوية الخاصة لمن يعانون من أمراض مزمنة ومستعصية، بينما يموت آخرون لعدم حصولهم على أصناف دوائية آمنة أو ذات جودة.
بالمقابل، تباع في الأسواق اليمنية أدوية مهرَّبة ومنتهية الصلاحية في الصيدليات والبقالات (محال بيع المواد الغذائية بالتجزئة) والمتاجر، على مرأى ومسمع من الناس، ومن السلطات الحاكمة شمالًا وجنوبًا، فلا رقابة ولا محاسبة لهذا القطاع الحيوي الذي يمسّ حياة البشر، والأدهى والأمَرّ أنّ معظم الأطباء في اليمن أصبحوا غارقين في صفقات بيع وتصريف الأصناف الدوائية، دون النظر للعواقب الصحية التي قد تصيب المواطن المغدور به، ولا حتى النظر لأمانة الطبيب العلمية وضميره المهني، وأصبحت الأدوية والعقاقير الطبية في اليمن سلعًا تجارية لمن يبحث عن الربح السريع، جعل هذا الواقع المأساوي في زمن الحرب -التي ما تزال مشتعلة حتى وقتنا الراهن- ضعافَ النفوس والجشعين من بعض التجار ورجال الأعمال، يتهافتون على استيراد وتصنيع أدوية رديئة الجودة في معامل تفتقد أبسط المعايير وتُسمّى مجازًا بالمصانع، بينما يمتلك تجّار آخرون مئات الشركات الخاصة لاستيراد وبيع الأدوية والمستلزمات الطبية لغرض الربح فقط، دون مراعاة للجوانب الإنسانية، ولا لاقتصاد الدولة ومصالحها.
في هذا التحقيق، تكشف "خيوط"، عن الأنشطة غير القانونية والخروقات التي تُرتكب في سوق الدواء اليمني وعن ضحايا تلك الأفعال.
استهتار بالأرواح
لم يكن أبناء الأربعيني محمد عادل، القاطنون في مدينة صنعاء، يُدركون أنّ عدم مقدرتهم على شراء دواء الضغط لوالدهم سيسبّب له ذبحة صدرية عقب أسبوع من عدم تناوله الدواء، حيث سبّب ذلك مشكلة صحية أودت بحياته، كما يقول جبر، أحد أبناء عادل، أثناء حديثه لـ"خيوط". ومثلهم الكثير من اليمنيين الذين استعصى عليهم ثمن شراء الأدوية الباهظة الثمن، والتي ارتفع سعرها لأضعاف مضاعفة خلال فترة الحرب الجارية(1).
الأدوية المحذّر منها من قبل هيئة الدواء المصرية، والشركة المصرية لتجارة الأدوية، وشركات في دول أخرى، تباع في كثير من الصيدليات بالعاصمة صنعاء بسعر رخيص، ولا أحد يأبه لأية تحذيرات، وهو الأمر الذي يعني أنّ كثيرًا من الأصناف الدوائية المهرّبة والمزوّرة والمغشوشة ومنتهية الصلاحية تباع في الأسواق في صنعاء أو عدن دون رقابة
أما الثلاثينيّ محمد علي المقطري، فقصته مع الدواء لها منحى آخر، إذ لم يكن يعرف أنّ عقارًا دوائيًّا، سيكون السمّ الذي يفتك بجسده ويزهق روحه، فحينما راجع المقطري طبيب المسالك البولية شاكيًا من آلام يعانيها في مثانته، كان الطبيب قد كتب له ذلك العقار، وحينما ذهب المقطري بروشيتة الطبيب لإحدى الصيدليات القريبة من سكنه بمنطقة دار سعد، مدينة عدن (جنوبي اليمن)، كانت الجريمة قد وقعت حينما أعطى ذلك الصيدلاني عقارًا يحمل الاسم ذاته الذي كان قد أوصى به الطبيب علاجًا له، ولم تمر 72 ساعة حتى فارق محمد الحياة، بسبب مضاعفات ألمّت به نتيجة تناوله الدواء المقلد.
عندما تقدّم عدنان، شقيق محمد المقطري، بشكوى إلى المجلس اليمني للاختصاصات الطبية(2) ضد طبيبٍ بمستشفى الجمهوري بعدن، متّهِمًا إياه بأنّه كان المتسبّب بحدوث الوفاة المفاجئة لشقيقه. تشكّلت لجنة من أطباء في ذلك المجلس الطبي، وكانت نتيجة التحقيقات قد كشفت عن أنّ وفاة محمد ترجع لتناوله موادًّا كيميائية مسمّمة، حينها بحثت عائلة محمد عن المأكولات والمشروبات التي تناولها محمد قبل وفاته، ووجدت أنّها كانت متداولة لديهم، ولم يُصَب أيٌّ منهم بأذى، وحينما طلبت لجنة المجلس الطبي التي حقّقت في الشكوى أسماء العقاقير التي تناولها المقطري قبل وفاته، وجدت أنّها تعود لعقار الأموكسيسيلين، وهو عقار كان مركز التيقظ الدوائي التابع لوزارة الصحة اليمنية قد حذّر تجّار الأدوية والصيدليات من التعامل معه؛ كونه مزوّرًا، لكن محمد المقطري لم يكن يعلم، ولم يعلم شقيقه المتابع للقضية ذلك، ولم يعلم حتى اسم الصيدلية التي اشترى منها محمد الدواء المزوّر قبل وفاته، كما يقول عدنان المقطري في حديثه لـ"خيوط".
في مدينة إب (وسط اليمن)، كان المواطن نصر عبدالله الحداد (50 عامًا)، يعاني من آلام بسبب التهابات حصوات في إحدى كُليتيه، وعندما تم إسعافه نهاية الأسبوع الأول من يونيو/ حزيران 2022، لإحدى المشافي الصغيرة هناك، تُوُفِّي عقب 24 ساعة من حقنه بإبرة، تسبّبت له بمضاعفات، وما تزال التحقيقات في وفاته جارية حتى كتابة هذا التحقيق، إذ يشير عبدالمغني الحداد، من أقارب المتوفَّى، في حديثه لـ"خيوط"، بأنّ تلك الإبرة ربما تكون مغشوشة.
يقول خالد قاسم، أحد أقارب المتوفَّى نصر الحداد، لـ"خيوط"، إنّ وصية الأخير قبل وفاته هي مسامحة الممرِّض الذي قام بحقن الإبرة لنصر الحداد، وهو الأمر الذي نفّذه أقاربه عقب وفاته.
ويعني مصطلح الأدوية المزيفة أو المغشوشة بأنّ ثمّة أدوية تباع في الأسواق والصيدليات، وتبدو معبَّأة بالطريقة الصحيحة، ولكنها لا تحتوي على المكونات الصحيحة وفي أسوأ السيناريوهات، قد تكون مليئة بمواد شديدة السُّمّية، بحسب توضيح الطبيب الصيدلاني غابر البُعني، لـ"خيوط".
يشير تقرير صادر في مارس/ آذار من العام 2020، عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومكتب الاتحاد الأوروبي للمِلكية الفكرية إلى أنّ اليمن واحدة من مجموعة دول تتم من خلالها علمية شحن المستحضرات الصيدلانية المزيفة المصنعة في الصين والهند وسنغافورة وهونج كونج إلى أي مكان في العالم.
في يوليو/ تموز الجاري، أطلقت هيئة الدواء المصرية، تحذيرًا بشأن دواء مغشوش لعلاج الضعف الجنسي يتم تداوله في الأسواق المصرية، ووصل إلى اليمن بحسب وسائل إعلام يمنية.
الهيئة العليا للأدوية والمستلزمات الطبية في اليمن، كانت قد حذّرت العام 2018، من أنّ جميع أنواع المنشطات الجنسية المتوفرة في السوق اليمنية على شكل عسل أو شوكولاتة أو غيرها من الأشكال غير المسجلة لدى الهيئة تحتوي على مادة
Taldlafil، وهي مواد كيميائية ذات أثر طبي ولها أعراض جانبية ومضاعفات غير مأمونة لكثير من الحالات، وهو الأمر ذاته الذي حذّرت منه الشركة المصرية لتجارة الأدوية.
يسمَّى بالتصريح الاستثنائي الذي يستفيد منه التجار القدامى والجدد، لكنه فتح للأخيرِين البابَ على مصراعيه أمام استيراد أصناف دوائية لا حدود لها من قبل مستوردين جدد من بيوت تجارية ولجت تجارة الأدوية من أبواب الحرب، كالروني والشبامي والفضلي وأبو مسكة، وهم تجار نافسوا المستوردين التقليديين، كبيت هائل سعيد أنعم، والجبل، والعودي، والرداعي، والكسار، والرباحي.
وبحسب تأكيد مسؤول في الهيئة العليا للأدوية بصنعاء، متحدثًا لـ"خيوط""، فإنّ التصريح الاستثنائي له إيجابيات خلال زمن الحرب تمثّلت بمساعدة التجار على توفير أدوية، كان من الصعب وجودها في الأسواق بسبب الحصار والقيود التي تمارسها دول التحالف على دخول بعض الأصناف الدوائية، لاعتقاد التحالف بأنّ بعض العقاقير يستخدمها المقاتلون في جبهات الحرب لمساعدتهم على البقاء لفترات أطول في الجبهات.
ويؤكّد المسؤول في هيئة الأدوية بصنعاء، أنّ التحالف منع دخول أكثر من 120 صنفًا دوائيًّا خاصًّا للمصابين بأمراض مزمنة.
حتى العام 2016، تشير تقارير رسمية صادرة عن وزارة الصحة في صنعاء، إلى أنّ فاتورة الاستيراد للأدوية بلغت ما يقارب 100 مليار ريال يمني، وهو مبلغ مالي ضخم يثقل كاهل المواطنين والدولة، ويحمّلهما أعباء مُزرية.
في حديثه لـ"خيوط"، يرى الدكتور محمد القباطي، نائب مدير إدارة الصناعات المحلية بالهيئة العليا للأدوية، أنّ "مصانع الأدوية المحلية ساهمت في التخفيف من الفاتورة الباهظة لاستيراد الأدوية، إذ تقوم تلك المصانع بتصنيع أدوية ذات مواصفات وجودة عالية، استطاعت أن تنافس الشركات العالمية، وحتى يستمر عمل تلك المصانع يجب على المجتمع اليمني أن يوليها مزيدًا من الثقة والتشجيع".
في صنعاء ومختلف المناطق اليمنية، يوجد 17 مصنعًا لتصنيع الأدوية، و20 مصنعًا محليًّا مسجّلًا رسميًّا في هيئة الأدوية التابعة لوزارة الصحة بصنعاء، و20 مصنعًا تحت الإنشاء سيعمل بموجب تراخيص، لكن معدّ التحقيق كشف عن وجود عشرات المعامل الصغيرة في مناطق السنينة وشملان وطريق ضلاع همدان بالعاصمة صنعاء، وهي معامل غير مرخص لها لصناعة الدواء، وليست مطابقة للمواصفات والمقاييس العالمية، بحسب اعتراف مالك إحدى معامل تصنيع الدواء، والذي تحدث لـ"خيوط"، بأنه وغيره من مُلاك تلك المعامل، يساعدون المواطنين البسطاء على شراء دواء رخيص.
يقول مالكُ إحدى معاملِ تصنيع الأدوية: "نحن نشغل الأيدي العاملة من خريجي الصيدلة والطب، والمواد الخام نشتريها من تجار جملة لديهم مخازن في صنعاء، في شارع تعز والزراعة والدائري، ونبيع الأدوية بسعر رخيص تساعد الناس على شرائها".
وفقًا لمالك إحدى مصانع الأدوية، فإنّ الأرباح الهائلة في قطاع الأدوية يحصل عليها تجار الجملة الذين يبيعون المواد الخام اللازمة لتصنيع الأدوية؛ فعلى سبيل المثال، تُـشترَى بعض المواد الخامّ من بلد المنشأ بأربعة دولارات ويبيعها التاجر اليمني للمصانع بـ40 دولارًا، هذا بحماية مسؤولين نافذين في السلطة مستفيدين.
غالبية تلك المصانع تعمل بدون ترخيص من السلطات الحكومية، والبعض يعمل وَفقَ تراخيص تمنح لهم من مكاتب الأشغال العامة والمجالس المحلية كمنشأة تجارية صغيرة.
يرى فضل منصور، رئيس الجمعية اليمنية لحماية المستهلك، أنّ مشكلة الأدوية المزوّرة في اليمن لم تعُد في المستوردة من خارج اليمن فقط، بل امتدّت إلى الداخل. يقول منصور لـ"خيوط": "كميات مهولة من الأدوية المزوّرة تدخل المنافذ الجمركية لليمن دون أيّ حسيب، وبالتأكيد هي عقاقير قاتلة"، إضافة إلى أنّنا كنّا قد استبشرنا خيرًا بوجود مصانع محلية تعمل على صناعة الأدوية، لكن المعامل غير المرخصة أفسدت الفرحة، هذان الأمران أدّيا إلى اختفاء الأصناف الجيدة وانتشار الأصناف الرديئة".
من بين الأدوية المزوّرة المتداولة في الأسواق والمصنَّعة محليًّا في معامل، رصدها معدّ التحقيق، دواء ديروجست الخاص لعلاج النساء الحوامل اللواتي يعانين من آلام البطن، إذ يقوم المزوِّرون بتعبئته في بواكت محلية الصنع، وتسجيل اسم الوكيل الأصلي للدواء المستورد، ويسوقونها على أنّها تابعة للوكيل، ومثله الكثير من الأدوية الخاصة بالنساء الحوامل، وهو الأمر الذي فسّرته إحدى طبيبات أمراض النساء بمستشفى السبعين، بأنّ ثمّة ارتباط بين الأدوية المزوَّرة والمهرَّبة وبين تزايد حالات الوفيات بين النساء الحوامل. إذ تقول في حديثها لـ"خيوط": "غالبية النساء لا يوجد لديهن الوعي بمسألة الحصول على دواء آمن، ما يهُم غالبية الناس هو شراء دواء بثمن رخيص، المشكلة أيضًا يعاني منها المجتمع ككل".
مصنعي ومستوردي الأدوية بعدالة، كون هذه العمولات والهدايا تضاف إلى قيمة الصنف، بالإضافة إلى السماح للمستورد بوضع سعر مرتفع دون أن يخشى مسألة تصريف الصنف.
وتصل قيمة العمولات والهدايا التي تُقدّم للأطباء في صنعاء، مقابل تصريف أصناف دوائية معينة، إلى ما يزيد على أربعة ملايين ريال في السنة، بحسب تقدير صلاح الحريري، وهو شاب كان يعمل في التسويق لإحدى شركات الأدوية الكبيرة في صنعاء، ويقول الحريري، إنّه "للأسف أصبح الطبيب في صنعاء، هو من يطالب شركات الأدوية بزيارته لعقد صفقات الترويج لأصناف دوائية، دون النظر لمدى فاعلية الدواء واستفادة المريض منه".
الاستثمارية، برأس مال مليون ومِئتَي مليار ريال يمني، حيث سيتم افتتاح عددٍ من الصيدليات لتبيع من خلالها الدواء للمواطنين بسعر التكلفة، وبدأت الهيئة بإصدار إعلانات مناقصات لبناء صيدليات مركزية تابعة لها في ثماني مستشفيات حكومية.
المشروع قوبل برفضٍ من قبل بعض مُلّاك شركات الأدوية والصيدليات، الذين التقت بهم "خيوط"؛ لأنّهم رأوا بأنه في حال تنفيذ ذلك، ستتحول الهيئة العليا للأدوية من مؤسسة رقابية إلى تجارية منافسة للشركات الدوائية وللصيدليات.
وفي السياق، وصفت نقابة ملاك صيدليات المجتمع في صنعاء إعلان هيئة الأدوية في صنعاء، تدشينَ مشروع الصيدلة الاستثمارية، بـ"الفضيحة" بسبب عدم وجود مسوغ قانوني لقيام الهيئة بذلك. إضافة إلى افتقادها بنى تحتية صالحة لتنفيذ مشروعها الاستثماري.
أسماء الشهاري، رئيسة اللجنة الإعلامية في نقابة الصيادلة اليمنيين، ترى أنه لا يمكن الحكم عن نجاح أو فشل تجربة مشروع الصيدلية الاستثمارية إلّا بعد أن يمارس المشروع نشاطاته في الميدان، وتقول الشهاري لـ"خيوط": "ربما يأتي تنفيذ المشروع لصالح المواطن الذي أثقله غلاء الأدوية واحتكار بعضها من قبل تجار جشعين لا هَمّ لهم سوى جمع أكبر قدر من المال، وربما يفشل المشروع وتتحول الصيدلية الاستثمارية لمشكلة تضاعف من غلاء أسعار الأدوية، وتزيد من معاناة المواطنين".
يبقى الأمل ضئيلًا بتوقف الحرب التي يشهدها قطاع الأدوية، والتي يزداد عدد أمرائها من تجار ومسؤولين نافذين، حتى وإن توقفت الحرب العسكرية والصراع الدائر في اليمن منذ العام 2015.