صُعق الطبيب عندما قالت له والدة الطفل الذي يعالجه، إن طفلها تجرع بول أحد المشعوذين الحوثيين، بعد أن أقنعها هو وأتباعه بفوائد بوله الذي سيشفي طفلها من معاناته مع الأمراض.
يقول الطبيب: «من حسن الحظ أن هذا المشعوذ الحوثي لم يفتح مركزاً حتى الآن لمداواة الناس ببوله، بعدما أصبحت الشعوذة تجارة رائجة في زمن الميليشيات».
كانت مراكز الشعوذة والعلاج بالتعاويذ منتشرة في عموم البلاد قبل الانقلاب الحوثي، وتزاول أنشطتها تحت مسميات عدة، بينها طب الأعشاب، إلا أن تدهور الخدمات الطبية والمنظومة الصحية بسبب الانقلاب وممارسات الميليشيات الحوثية التي تعمل على السيطرة على هذا القطاع أدى إلى ازدهار الشعوذة، وتحولها إلى استثمار تنشط فيه الميليشيات نفسها.
قبل الانقلاب بعام؛ قدر مركز الأبحاث والدراسات الاجتماعية اليمني، عدد الذين يزاولون أنشطة الشعوذة والسحر في اليمن، بما يزيد عن 15 ألف شخص، ويزورهم سنوياً ما بين 250 ألفاً، و300 ألف شخص، وتوقعت صحيفة محلية في الفترة نفسها، أن حجم اقتصاد هذه الظاهر يشير إلى ربع مليون دولار.
إلا أن باحثاً يقيم في صنعاء يتوقع أن حجم هذا الاقتصاد تضاعف عدة مرات، إذ تزايدت أعداد مراكز العلاج بالشعوذة بشكل لافت، وأحصى بنفسه ما يربو على 200 مركز تعمل بشكل علني، ووجد أن بعضها يزاول أنشطته بترخيص من وزارة الصحة التي تديرها الميليشيات الحوثية، والغالبية منها تتستر باسم الطب البديل وطب الأعشاب.
وأفاد الباحث، الذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب تتعلق بسلامته، بأن العديد من هذه المراكز يديرها أشخاص قدموا من صعدة، حيث معقل الميليشيات خلال سنوات الحرب، ويتم إقناع المتداوين فيها بالتبرع لصالح المقاتلين الحوثيين في الجبهات والدعاء لهم كشرط للشفاء، مؤكداً أن جدران المراكز من الداخل تغطيها صور قتلى الميليشيات ومقولات قائدها عبد الملك الحوثي وشقيقه حسين مؤسس الجماعة.
يقول الطبيب يحيى الأثوري المقيم في صنعاء، إن الأمراض تنتشر بشكل كبير في ظل الحرب، حيث يتسبب الفقر في انتشار سوء التغذية ونقص الاهتمام بالصحة بشكل عام، إضافة إلى الضغوط النفسية التي تساعد في تدهور الصحة لدى الأفراد، وتنتشر الأوبئة تباعاً، وكل هذا يترافق مع تراجع الخدمات الصحية، ونزوح الكوادر الطبية.
ويتابع: «في هذا الوضع تتراجع الثقة بالطب الحديث، وتعود الخرافات إلى الانتشار والسيطرة على أذهان الناس، خصوصاً أنهم فقدوا الثقة بالخدمات الطبية المتردية وأسعارها الباهظة، وإلى جانب هذا؛ غياب التوعية وتراجع أو غياب أدوار المؤسسات الرسمية، وانعدام المسؤولية في التعاطي مع الشعوذة والخرافات».
ويضيف: «كطبيب خسرت الكثير من المرضى الذين كانوا يرتادون عيادتي، سيطرت على عقول الكثير من المرضى قناعات أن العلاج لدى الأطباء يأخذ أوقاتاً طويلة ومبالغ كبيرة، ولا يؤدي إلى نتيجة، وهناك من يوهمهم أن المشعوذ، وإن أخذ منهم مبلغاً كبيراً دفعة واحدة، فإن القوى الغيبية التي يملكها ستمنحهم الصحة في لحظات».
وسيطرت الميليشيات الحوثية على قطاع الصحة ضمن سيطرتها على مؤسسات الدولة منذ الانقلاب أواخر عام 2014، متسببة في تجريف نظام الرعاية الصحية في اليمن، وانتشار الأمراض والأوبئة وتدمير المستشفيات وتراجع قدراتها على مواجهة الأمراض المعدية والمزمنة.
يقول طبيب آخر في مستشفى الثورة العام في صنعاء، إن السلطات الرسمية لم تكن حاضرة في السابق للرقابة على المراكز التي تقدم خدمات علاجية خارج المنظومة الصحية، خصوصاً أن الكثير من تلك المراكز كانت تمارس الدجل والشعوذة والعلاج بالتعاويذ، لكن السلطات الحالية (يقصد الحوثيين) تقدم ما يشبه الحماية والرعاية للمشعوذين.
ويؤكد الطبيب، الذي طالب بعدم ذكر اسمه لدواعٍ تخص أمنه وسلامته، أن هناك قيادات حوثية تدير شبكة من هذه المراكز العلاجية التي يديرها أشخاص أدعياء ولا علاقة لهم بالطب، أو حتى ما يعرف بالطب البديل، بل إن غالبية هذه المراكز تمارس الشعوذة والدجل، برضا الميليشيات ودعمها.
ويشير إلى أن الميليشيات تستفيد من هذه المراكز بتحقيق عوائد مالية كبيرة، حيث يلجأ الكثير من زبائنها إلى إنفاق مدخراتهم، أو بيع أراضيهم ومجوهراتهم، من أجل التداوي فيها، في حين تفرض الميليشيات إتاوات كبيرة على المراكز التي لا تتبعها أو تتبع قيادات فيها.
أما الفائدة الأهم التي تعود على الميليشيات، حسب الطبيب، فهي تجهيل الناس وإقناعهم بالخرافات والشعوذة من أجل تنازلهم عن حقهم في الحصول على العلاج الحديث القائم على العلم والتكنولوجيا، لأن الميليشيات تسعى إلى تدمير قطاع الصحة الرسمي، وتحويله إلى مؤسسة استثمارية تابعة لها، وإلغاء مجانية التطبيب والرعاية الصحية للمواطنين.
يُلاحظ أن انتشار مراكز التداوي بالشعوذة تنتشر بالتوازي مع انتشار مراكز التداوي بالأعشاب والطب البديل، والكثير من هذه المراكز تعمل بالتخصصين معاً، وبعد أن كانت هذه المراكز تنتشر في أطراف المدن، وفي الأرياف النائية كمحافظتي حجة وإب، برزت العديد منها في قلب العاصمة صنعاء بشكل علني دون خوف من رادع قانوني.
يصف أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة عدن، قاسم المحبشي، تنامي هذه الظاهرة، بـ«الحالة السريالية المفارقة لكل منطق وتاريخ». ويقول «إن إجبار الناس على العودة إلى السحر والشعوذة والخرافة؛ يندرج ضمن التعمية الآيديولوجية للحركة الحوثية الطائفية برمتها الكلية، فهذه الحركة هي بنت الخرافة والسحر والشعوذة في منطلقاتها وأدواتها ومسيرتها وشعاراتها وأهدافها المعلنة والمضمرة».
وينوه المحبشي إلى القاعدة المتعارف عليها «الناس على دين ملوكهم»، ويضيف: «من هنا نفهم أن السياسة الطبية الحوثية تأتي في سياق علاقات القوة بين السلطة والمعرفة، فكل سلطة تنتج المعرفة والأدوات التي تبررها وتكرسها وتطيل دوامها، والناس دائماً هم الضحايا لتلك الحلقة الجهنمية التبادلية بين المعرفة والسلطة وليس بمقدورهم الهرب من إكراهاتها الواقعية».
ويستطرد: «إن أفكار الناس تنبع من واقع علاقاتهم الاجتماعية في عالم الممارسة اليومية، والسؤال هو: ليس ماذا يفعل الناس ويعتقدون ويقولون؟ بل لماذا يفعلون ما يفعلونه ويقولون ما يقولونه؟ فالممارسة هي الجزء المختفي من جبل الجليد، وشيوع ظاهرة السحر والشعوذة والخرافة في الحالة اليمنية الراهنة هو ملمح من ملامح الوضع العام الذي يتحدر إليه اليمن الآن ولا شيء خلف الستار».