بعد حصولها في الثانوية العامة على معدل 92% قسم علمي، قدمت سهيلة البناء على ثماني منح لدول مختلفة، لكنها قوبلت بالرفض. وعندما أخبرها بعض المعارف بوجود منح مقدمة من حكومة كوريا الجنوبية، لم تكن سهيلة تعرف شيئاً عن هذا البلد، وحتى أين يقع على الخريطة.
تقول البناء إنها شعرت باليأس عندما لاحظت وجود عدد كبير من المتنافسين على المنحة الكورية، “إلا أن رئيسة كوريا الجنوبية بارك غيون هاي (فبراير 2013 -مارس 2017)، وهي أول امرأة تصل إلى كرسي الحكم في هذا البلد، مثلت ورقة رابحة لسهيلة أنقذتها من ورطة الفشل بالمنحة.
عندما سأل أعضاء لجنة القبول في السفارة الكورية في صنعاء، سهيلة، عما تعرفه عن “الهاليو”، الموجة الكورية الجديدة في الثقافة والفنون، التي اكتسحت العالم، ردت سهيلة بالنفي.”فسألوني لماذا تقدمتِ إذن؟ فرددت لأنني معجبة بأن لديكم رئيسة تحكم البلد، وهذا ما حمسني للدراسة في إحدى جامعاتكم”.
لكن المصادفة غير السارة، هي أن الرئيسة الكورية بارك هاي ستُدان مطلع عام 2017 بالفساد، ويتم عزلها من منصبها، ويحكم عليها بالسجن. أما الصدمة الحقيقية التي تلقتها سهيلة البناء، فجاءت من اللغة الكورية التي أصابتها بالإحباط، وأدت إلى تراجع مستواها الدراسي؛ هي التي ظلت متفوقة خلال سنوات تعليمها العام.
تقول البناء: “كنت أدخل القاعة وكل الطلاب كوريون، ولم أكن متمكنة من اللغة. كنت زيي زي الكرسي. امتحاناتي فقط بالإنجليزية، لكن الدراسة كلها بالكورية، ولم أكن أفهم نهائياً، وتخرجت بتقدير جيد”.
وتضيف: “أحسست بأنني ضائعة، محبطة، لأن توقعاتي للجامعة كانت عالية، وكنت متحمسة، لأني في المدرسة كنت شاطرة، ودائماً الأفضل، وعندما أتيت هنا أحسست أن قيمتي صفر بسبب اللغة والمجتمع الكوري”.
في سنتها الثالثة في “جامعة سول الوطنية”، ستتنفس طالبة العلوم السياسية، سهيلة البناء، الصعداء، وتستعيد ثقتها بنفسها، ويرجع ذلك إلى اختيارها تخصصاً فرعياً حول الشرق الأوسط، وهو تخصص يدرس بالإنجليزية. كما أن “الشرق الأوسط بيئتي، وحاجة أحبها، وكان لي وجود داخل المحاضرات، وكان الدكتور يرجع إليّ عندما يتحدث، وبهذا وجدت ذاتي؛ ولم أعد أشعر بأني غريبة”، تقول البناء.
لكن هذه الطمأنينة لم تدم طويلاً، فأثناء تحضيرها لبحث تخرجها واجهت سهيلة صعوبات تتعلق بمزاجية المشرف عليها، وعدم تقبله للنقاش، ما أدى إلى منحها درجة “جيد جداً”، “مع أن ورقتي كانت كويسة“، تقول سهيلة التي وصلت كوريا الجنوبية عام 2013، “بمشاعر ملخبطة ما بين الفرحة والخوف والقلق والتيه، وأول يوم من وصولي مرضت، وكنت أسكن في غرفة مع مسيحية مصرية حبوبة جداً، اهتمت بي”.
توحي الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على حساباتها، بفتاة مترفة، لكن الحقيقة أن سهيلة كافحت كثيراً في حياتها، فأثناء دراستها عملت في مطعم تركي في سول، لمدة شهرين، ما منحها بعض المال الذي بواسطته استطاعت السفر إلى اليمن لقضاء الإجازة، كما اشتغلت مرشدة سياحية ومترجمة للعرب المرضى، وشاركت بصوتها في مسلسلين تلفزيونيين كوريين دُبلجا إلى العربية.
•وجوه بلا ملامح تقر سهيلة التي صارت تتحدث الإنجليزية والكورية، وتحضر رسالة الماجستير في جامعة “سوكميونغ”، بالجهود التي تبذلها كوريا الجنوبية لدعم الأجانب، وتحفيزهم، لكنها ترى أن تأثير هذه الجهود مازال بطيئاً.
تقول: “صحيح أن أفراد المجتمع الكوري مسالمون ومحترمون، لكنهم لا يتقبلون الأجانب”. موضحة أنه، وعلى رغم طموح كوريا الجنوبية للوصول إلى العالمية، إلا أن “عقول الناس ليست متقبلة، وينظرون إلينا كغرباء، وهذا طبيعي، لكننا نتعب جداً من هذه النظرات”.
ويبدو أن الصعوبة التي واجهتها سهيلة البناء مع اللغة الكورية، أثرت على أحكامها، فهي ترى أن اللغة تعوق الشعب الكوري، “ما يجعلهم ينطوون على أنفسهم”، لكن تقارير صحفية تشير إلى انتشار اللغة الكورية على المستوى العالمي بفضل المسلسلات والأغاني الكورية.
تصف سهيلة الشعب الكوري بأنه “شعب كتوم لا تتبين ملامح غضبه أو فرحه على وجهه، أما نحن فوجوهنا تعبر عما في داخلنا، سواء كنا فرحانين أو حزينين”.
لكن سهيلة تستثني من حكمها هذا متسلقي الجبال الذين تعتبرهم “أفضل فئة اجتماعية ممكن تتعرف عليهم في كوريا؛ فهؤلاء يتمتعون بالحميمية وعدم النفور من الغرباء، “يشتوا يتعرفوا عليك، ويعرفوا من أنت ومن أين”.
وتضيف: “في موسم تسلق الجبال، تلاقي كل الطبقات هناك، الأغنياء والفقراء والعمال، تحس أنه مافيش فرق بينهم وهم يمارسون نفس الهواية. هم يستخدموا عصي وأدوات السلامة، وأنا الوحيدة بدون عصي، أنا بنت قرية ومتعودة أمشي الجبال حتى بصندل، وهذا شغف منذ طفولتي في القرية”.
ودأبت سهيلة على ممارسة رياضة تسلق الجبال “لأنها تخرجني عن الواقع وعن جو الغربة والصعاب والتحديات. أصعد من خمس إلى ست مرات. تسلقت جبالاً كثيرة، من ضمنها جبل هالاسان في جزيرة جيجو، والذي يعتبر أكبر جبل في كوريا”.
بالنسبة إلى سهيلة، فإن تسلق الجبال “هو تجديد للروح”، وبيئة صفاء وتعايش. تقول: “حبي للكوريين أتى من الجبال، فهناك تعرفت على كبار في السن، وتعلمت منهم اللغة، وهم اللي خلوني أتكلم بكل ثقة، ولغتي الكورية قريبة للكنة كبار السن”.
وعلى الرغم من المصاعب التي واجهت سهيلة البناء، إلا أنها استطاعت أن تتغلب عليها بإرادة نادرة، وتمكنت من إثبات ذاتها، ما جعلها أشبه بنجمة تتألق في مختلف النشاطات العامة، فخلال دراستها البكالوريوس -حسبما تقول- سافرت إلى الهند لمدة شهرين، ضمن برنامج تطوعي، وشاركت في تنظيم مهرجان “أهلاً يمن” الذي هدف إلى التعريف باليمن من تراث وأزياء وموسيقى ومطبخ. كما أسهمت في تأسيس أول اتحاد للطلاب اليمنيين في كوريا، وشغلت المسؤولة الثقافية فيه. وفي 2019 شاركت ضمن اليوم المفتوح للرسم، الذي دعا إليه فنان الغرافيتي المقيم في فرنسا مراد سبيع. كما عملت مع منظمة السياحة الكورية.
منذ عام 2016، برز نجم سهيلة على منصات التواصل الاجتماعي، ما زاد من أعداد المعجبين بها وبنشاطاتها. فعلى سبيل المثال، حصل حسابها على منصة “سناب شات“، على 80 ألف مشاهدة، فيما بلغ عدد متابعيها على إنستغرام، 100 ألف متابع. وحصدت على يوتيوب، أكثر من 170 ألف مشاهدة لفيديو واحد.
وكان ظهور سهيلة في المجال العام، خصوصاً وهي ترقص بالزي الشعبي لمناسبة التعريف بالموسيقى اليمنية، أثار جدلاً وانقساماً في أوساط المتابعين. وفيما ذهب البعض إلى قذفها، صنفها موقع “بي بي سي”، في نسخته العربية، ضمن “المحفزين الشباب بالطاقة الإيجابية”، كما نعتها كاتب في صحيفة “الأيام“ بـ“ابنة العولمة” الفردية التي استطاعت استخدام وسائل العصر لنشر صورة إيجابية عن بلدها والتعريف به.