في سبعينيات القرن الماضي جرت واقعة من تلك التي تعلق بالذاكرة ولا تفارقها أبدا. حكاية أقرب إلى الخيال بمقياس المعتاد والشائع، أحداثها تنغمس في الوجدان حتى الأعماق عصية على الزمن. تدور وقائع هذه الحادثة المأساوية حول امرأة ليبية من طرابلس وضعت حدا لحياتها بطريقة قاسية واستثنائية في مجتمع شرقي من خصائصه حتى وقت قريب ندرة ظاهرة الانتحار.
كانت هذه السيدة الليبية النبيلة متزوجة، وقد مر على ذلك أكثر من عشر سنوات ولم تنجب، ما أثار موجة من اللغط حولها وخاصة من عائلة زوجها.
حين كانت تجتمع النسوة في مناسبة ما، كانت الأسئلة تنهال عليها ملحاحة مستفزة تسألها عن سبب عدم قدرتها على الإنجاب. أسئلة تصاحبها تلميحات لا تخلو من قسوة، فهي مسكينة وزوجها مظلوم، والذرية أمر هام لا تستقيم الحياة الزواجية من دونه، وما شابه من أقوال.
لسنوات تحملت هذه السيدة الكثير من العبارات القاسية التي جعلت منها مذنبة ومسؤولة عن خلو منزلها من ضحكات الأطفال وشقاوتهم. بل وبدا الأمر كما لو أنها كانت مسؤولة عن حرمانها من الأمومة، وزوجها من الأبوة.
حاولت السيدة أن تبحث عن مخرج مما هي فيه، وتحدثت إلى زوجها عارضة عليه أن يتزوج بأخرى، وأن يضيف إليها "ضرة" من أجل أن يكون له خلف.
وكان الزوج من نفس طينة السيدة. رفض الفكرة بشدة مؤكدا رضاه بالقسمة والنصيب، وطلب منها أن تغلق هذا الباب وأن ترضى هي الأخرى بالأمر الواقع، وألا تعير أي اهتمام لما تلوكه ألسنة النسوة في خلواتهن.
لم تنته محنة السيدة، بل صُدت جميع الأبواب أمامها، وبقيت هدفا لسهام النقد والتجريح القاسية، فانهارت مقاومتها ولجأت إلى أسوأ الحلول وأقسى النهايات.
وجدت السيدة نفسها محاصرة بين ألسنة النسوة الصليتة وغياب أي مخرج ممكن، فأخذت ذات ليلة حبلا لفته على عنقها وتعلقت به.
وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتنطفئ الأضواء حولها تماما، خبأت صورة زوجها فوق صدرها تحت الزي الليبي التقليدي.
لماذا فعلت ذلك؟
الحكاية تقول إنها أرادت، وهي الأمية البسيطة، أن تعبر لزوجها عن حبها الصامت الخفي. وأرادت أيضا في نفس الوقت أن تبعد عنه بهذه الطريقة أي شبهة في موتها المأساوي.
ولأنها حادثة صادمة بواقعيتها وألمها الكبير، انطبعت في وجدان طفل ما أن عايش أحداثها وبقيت حية نابضة داخله رغم مرور الزمن وتزاحم الأحداث. بل ويمكن القول إنها مع الزمن أصبحت أكثر حضورا وسلطانا، مثل جرح غائر ما أن يندمل حتى يُفتح من جديد.
وربما لهذا السبب، خرجت الآن مثل بركان. خرجت كما عايشها ذلك الطفل الصغير، ورددتها ذاكرته في الخفاء لعشرات السنين مثل تعويذة خلّدتها الأوجاع. أوجاع تنفعل لها القلوب وجيبا يخيل أنه يصل على مسامع من بالجوار.
المصدر: RT